الحليب الأسود

موقع أيام نيوز

لكنها لم تكن هي بشكل واضح. وبالرغم من الظنون التي كتمها زوجها لم تهجره إطلاقا ولم تحب رجلا آخر غيره. بل على العكس لقد ظلت مرتبطة أشد ما يكون الارتباط به وبأسرتها. إلى أن دفعها ذلك عن الحافة. تنجب طفلا كل عام ومع كل طفل تصير صوفيا نزقة بعض الشيء ويتعرض زواجها لمصېبة أخرى.
لا يمر يوم دون جدال يسري مزعجا في البيت تجف طاقات الزوجة والزوج جراء مشاحنات بائسة على أمور ليست أكبر من ذرة غبار. هكذا خاض تولستوي ضبابا كثيفا في زواجه لعدة أعوام. وقد كان الچنس طريقة لإعادة اللحمة ولكن عندما اضمحل حتى هذا بنفس القدر لكليهما وبدأ الضباب بالانقشاع لم يستطع تولستوي أن يتحمل ما كان يخفيه بعد ذلك.
عندما أطل تولستوي في روح زوجته رأى الشباب والرغبة والطموح ولم يرضيه ما وجده. وعندما أطلت صوفيا في روح تولستوي رأت التمركز على الذات ممزوجا ببذار الإيثار ولم تستشعر كيف أنه سيؤثر عالمه على حياتهما المشتركة مستقبلا. حدق فيها وتساءل كيف لها وهي التي كبرت في نعمة وترعرعت في بيئة حسنة أن يكون لها مثل تلك الرغبات. وحدقت فيه وتساءلت كيف يستطيع وهو المدلل والمحترم أن يحب أي شيء فوق حبه لها سواء كان حبه ذاك للكتابة أم حتى لله نفسه.
مثل الدكتور فرانكنشتاين الذي عانى ليتخلص بنفسه من المخلوق الذي صممه وبناه جعل تولستوي من تلك الفتاة المفعمة التي تزوجها منذ سنوات زوجة تعيسة ومولعة بالخصام.
حاول لفترة أن يتحملها إلا أن صبره نفد بسرعة. شكى في رسالة لابنته أليكساندرا إلفوفنا على صوفيا التي تتجسس عليه دائما مسترقة السمع والمتنصتة شكى اعتراضاتها المتواصلة وأوامرها الدائمة وسعيها لتسييره كما يحلو لها. ثم و خلال نفس واحد كتب أنه يريد التحرر منها. هكذا بغتة و دون تراجع أقصى نفسه عن زوجته وعن كل ما يرتبط بها.
هكذا ببساطة في الأحد الأيام غادر.
تلك الظهيرة وللمرة الأولى منذ وقت طويل شعر بالحرية إلى جانبه لا كمفهوم مجرد أو فكرة للدفاع عنها ولكن كحضور قريبة وصلبة وملموسة. لقد مشى. لقد وثب وقفز. وبعلو صوته غنى أغان لم يسمع بها أحد من قبل. الفلاحون الذين يعملون في الحقول المجاورة شهدوا تولستوي أكثر الروائيين الروس احتراما وتقديرا يقوم بأعمال تتنافس في الجنون ولم يخبروا عنها أحدا. و جزاء لهم على صمتهم ودعمهم في تلك الليلة نفسها قرر تولستوي أن يتبرع بممتلكاته وثروته كلها للفقراء. الرجل الذي جاء من طبقة أرستقراطية الذي عاش تحت سقف صلب طوال حياته يقوم الآن بنثر كل امتيازات موقعه الاجتماعي في الهواء.
حليب أسود
الفصل 13
النبي أيوب صياد السمك الأكبر
ما يعرفه صيادو السمك
مضى شهران . إنها السادسة صباحا من يوم أحد أسير على ساحل البحر . كنت دوما ولا أزال من المبكرين في النهوض من النوم فالاستيقاظ بعد شروق الشمس يجعلني أتبرم بعض الشيء . وفوق هذا أشعر حينها أن العالم كله راح يصطخب منذ مدة ولم أستطع اللحاق به كأنني قد وصلت الحفل في آخره .
لذا ها أنا في قمة صحوي ذاهبة للتنزه سيرا على الأقدام . وهناك سواي بالطبع من أشكال الحياة قد استيقظت في هذه الساعة المبكرة نوارس البحر وقطط الشوارع وهواة صيد السمك والإسطنبوليون جميعا . أتنزه ومن جهاز ال iPad خاصتي تصدح أغاني آمي واينهاوس وفي جيبي فشار أعتقد أن الفشار في عالم أفضل من هذا سينجح في الوصول إلى قوائم أطباق الفطور . أمشي متأهبة أستعيد متأملة حياة صوفيا تولستوي .
للهواء من حولي صفاء بلوري والسماء النيلية تتدلى من فوقي مجعدة بغيوم كورود متفجرة التفتح تدرج نحو هضاب إسطنبول البعيدة . تبدو هذه المدينة وكأنها قد استعادت شبابها صافية كعروسة خارجة من حمام عرسها . يستطيع المرء أن يرى أن هذه المدينة ليست هي نفسها تلك التي تدفع أهلها إلى الجنون يوما بعد يوم تبدو الآن فاتنة وخلابة ومغرية أيضا مدينة مغموسة في العسل . أظن أن إسطنبول تكون في أجمل أوضاعها عندما لا نكون نحن الإسطنبوليون في شوارعها ومن حولها وهذا سبب آخر للنهوض مبكرا .
على خطى الساحل المؤدي
تم نسخ الرابط